كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقد أثبت العلم الحديث هذا الترتيب للسمع والبصر والفؤاد مما يدلُّ على أنه ترتيب من خالق عن حكمة وعلم وقدرة، بحيث لا يأتي واحد منها قبل الآخر، كما أثبت علماء وظائف الأعضاء صِدْق هذا الترتيب، فأوّل أداة تؤدي مهمتها في الإنسان هي الأذن ثم العين، وتعمل من ثلاثة إلى عشرة أيام من الولادة، ثم من السمع والبصر توجد القضايا التي يعمل فيها العقل.
إذن: فهذا ترتيب خَلْقي وتكويني. كما أن السمع وهو أول حاسّة تؤدي مهمتها في الإنسان هو أيضًا الإدراك الوحيد الذي يصاحب الإنسان في كل أطواره، فالأذن تسمع مثلًا حتى في حالة النوم على خلاف العين؛ ذلك لأن بالسمع يتم الاستدعاء، لذلك تظل تؤدي مهمتها حتى في حال النوم.
كما أن العين لا ترى في الظلام ولها غطاء طبيعي ومغاليق تحجب الرؤية، وليست الأذن كذلك، فالصوت إذا خرج تسمعه جميع الآذان، أما المرئيّ فقد يوجد معك في نفس المكان ولا تراه وقد يراه غيرك، إذن: فالمسموع واحد والمرائي متعددة، لذلك قال سبحانه: {السمع والأبصار} [المؤمنون: 78].
فليس لك خيار في السمع، لكن لك خيار في الرؤية، فالمبصرات تتعدد بتعدُّد الأبصار، لكن السمع لا يتعدد بتعدُّد الأسماع.
لذلك من إعجازات البيان القرآني في قصة أهل الكهف أن الله تعالى ضرب على آذانهم في الكهف ليناموا ولا تزعجهم الأصوات في هذه الصحراء الدويّة، ولو بقي لهم السمع كشأن الخَلْق جميعًا لما استقر لهم قَرَار طوال هذه الفترة الطويلة، ولأفزعتهم الأصوات.
يقول الحق سبحانه وتعالى: {فَضَرَبْنَا على آذَانِهِمْ فِي الكهف سِنِينَ عَدَدًا} [الكهف: 11].
كذلك من آيات الإعجاز في القرآن الكريم أن جميع الآيات التي ذكرتْ السمع والبصر ذكرتْه بهذا الترتيب: السمع والأبصار، إلا في آية واحدة في موقف القيامة قالوا: {رَبَّنَآ أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا} [السجدة: 12].
فقدَّم البصر على السمع؛ لأن في القيامة تفجؤهم المرائي أولًا قبل أنْ تفجأهم الأصوات، وهذه من مظاهر الدقة في الأداء القرآني المعجز.
وكأن الحق سبحانه يقول: لا عُذْر لك عندي فقد أعطيتُك سمعًا لتسمع البلاغ عني من الرسول، وأعطيتُك عَيْنًا لتلتفت إلى آيات الكون، وأعطيتُك فؤادًا تفكر به، وتنتهي إلى حصيلة إيمانية تدلُّك على وجود الخالق عز وجل.
إذن: ما أخذتُك على غِرَّة، ولا خدعتُك في شيء، إنما خلقتُك من عدم، وأمددتُك من عُدم، ورتبتُ لك منافذ الإدراك ترتيبًا منطقيًا تكوينيًا، فأيُّ عذر لك بعد ذلك.. وإياكم بعد هذا كله أنْ تشغلكم الأهواء، وتصْرفكم عن البلاغ الذي جاءكم على لسان رسولنا.
والمتأمل في تركيب كل من الأذن والعين يجد فيهما آيات ومعجزات للخالق-عز وجل- ما يزال العلماء لم يصلوا رغم تقدُّم العلوم إلى أسرارها وكُنْهها.
ثم يقول سبحانه في ختام الآية: {قَلِيلًا مَّا تَشْكُرُونَ} [المؤمنون: 78] لأن هذه نِعَم وآلاء وآيات لله، كان ينبغي أن تشكر حَقَّ الشكر.
البعض يقول في معنى {قَلِيلًا مَّا تَشْكُرُونَ} [المؤمنون: 78] أنه تعالى عبَّر عن عدم الشُّكْر بالقلة، وهذا الفهم لا يستقيم هنا؛ لأن الله تعالى أثبت لعباده شكرًا لكنه قليل، وربك-عز وجل- يريد شكرًا دائمًا يصاحب كل نعمة ينعم بها عليك، فساعة ترى الأعمى الذي حُرِم نعمة البصر يتخبَّط في الطريق تقول الحمد لله، تقولها هكذا بالفطرة؛ لأنك تعيش وتتقلب في نعَم الله، لكن لا تتذكرها إلا حين ترى مَنْ حُرِم منها.
لذلك، إنْ أردتَ أنْ تدوم لك النعمة فاعقلها بِذكْر الله المنعم قُلْ عند النعمة، أو عند رؤية ما يعجبك في أهل أو مال: ما شاء الله لا قوة إلا بالله، أَلاّ ترى أن الله تعالى جعل الحسد لينبهنا: إنْ أردتَ صيانة النعمة فلا تنسَ المنعِمَ؛ لأنه وحده القادر على حِفْظها وصيانتها، وجعلتَ حفظها إلى مَنْ صنعها. ولا يُصاب الإنسان في النعمة إلا إذا غفل عن المنعم وترك الشُّكْر عليها.
وأذكر أنه كان في قريتنا رجل من أهل الفهم عن الله، وكان يملك ثلث فدان يزرعه المزروعات التقليدية، وفي أحد الأعوام زرعه قطنًا، فجاءت عليه الدودة وكادت تهلكه، فكلَّمه والدي في مسألة الدودة هذه فقال له: يا عم متولي لا تقلق فأنا أؤدي صيانتها يعني: أُخرِج منها الزكاة.
ثم يقول الحق سبحانه: {وَهُوَ الذي ذَرَأَكُمْ فِي الأرض}.
{ذَرَأَكُمْ} [المؤمنون: 79] بثكم ونشركم في أنحاء الأرض لتعمر كلها، وتعجب حين ترى أناسًا متشبثين بالجبال والصحراء القفر الجرداء، ولا يرضون بها بديلًا، ويتحملون في سبيل البقاء بها العَنَت والمشقة، حتى إنك لتقول: لماذا لا يتركون هذا المكان إلى مكان خصب.
وقد رأينا مثل هؤلاء الذين صبروا على أقدار الله في بلادهم، رأيناهم في اليمن بعد أن أغرقها سيل العرم، وكانت تُسمَّى اليمن السعيد ورأيناهم في السعودية وفي الكويت، وحكى لنا أهل هذه البلاد ما كانوا فيه من الضيق وقسوة الحياة، ثم جاءتهم عاقبة صبرهم، وجعل الله- سبحانه وتعالى- هذه الجبال وهذه الصحراوات أغنى بلاد الدنيا؛ لأنهم رَضُوا في الأولى بقضاء الله، فأبدلهم بصبرهم على لأواء الصحراء نعيمًا، لو حُرِم منه المنعّمون في الدنيا لماتوا من البرد.
ذلك لأن الخالق-عز وجل- نثر خيراته في كل أنحاء الأرض بالتساوي، فكل قطعة طولية من الأرض فيها من الخيرات مثل ما في القطعة الأخرى، وفي يوم من الأيام كان أصحاب الزرع هم أصحاب المال وأصحاب السيادة، ثم تغيرت هذه الصورة بظهور خَيْرات أخرى غير الزراعة، فالخيرات- إذن- مطمورة في أنحاء الأرض لكن لها أوان تظهر فيه.
إذن: فبَثُّ الخليقة ونشْرُها في أنحاء الأرض له حكمة أرادها الخالق عز وجل.
ثم يقول الحق سبحانه: {وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [المؤمنون: 79] يعني: لا تفهموا أنكم بنشركم في الأرض وتفريقكم فيها أنكم تفلتون منا، أو أننا لا نقدر على جمعكم مرة أخرى، فكما نشرناكم لحكمة نجمعكم لحكمة لا يخرج من أيدينا أحد.
ثم يقول الحق سبحانه: {وَهُوَ الذي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اختلاف}.
{يُحْيِي وَيُمِيتُ} [المؤمنون: 80] فِعْلان لابد أن ينشآ بعد وجود الحياة ووجود الموت، فالخالق-عز وجل- يُوجِد الحياة أولًا، ويوجد الموت، ثم يجري حدثًا منهما على ما يريده.
والحياة سبقتْ الموت في كل الآيات، إلا في آية واحدة في سورة تبارك: {الذي خَلَقَ الموت والحياة} [الملك: 2] وعِلَّة ذلك أن الله تعالى يعطي للإنسان بالحياة إرادةً تُنشِيء الحركة في كل أجهزته، ولك أن تتأمل: ما الذي تفعله إنْ أردتَ أن تقوم من مكانك؟ ماذا تفعل إنْ أردتَ تحريك يدك أو قدمك؟ إنها مجرد إرادة وتتحرك أعضاؤك دون أن تدري أو تُجهد نفسك للقيام بهذه الحركات، ودون أن تباشر أي شيء.
إذن: بمجرد إرادتك تنفعل لك الجوارح وأنت مخلوق لربك، فإذا كان المخلوق يفعل ما يريد بلا معالجة، فكيف نستبعد هذا في حقِّه- سبحانه وتعالى- ونكذب أنه يقول للشيء: كُنْ فيكون، مع أننا نفعل ما نريد بجوارحنا بمجرد الإرادة، ودون أن نأمرها بشيء أو نقول شيئًا، والله سبحانه وتعالى يقول للشيء: كُنْ فيكون، وأنت تفعل دون أن تقول.
وقد قدَّم الحق سبحانه الموتَ في هذه الآية: {الذي خَلَقَ الموت والحياة} [الملك: 2]؛ لأن الحياة ستُورث الإنسانَ غرورًا في سيطرة إرادته على جوارحه فيطغى، فأراد ربه-عز وجل- أن يُنبهه: تذكّر أنني أميتُ؛ ليستقبل الحياة ومعها نقيضها، فيستقيم في حركة الحياة.
وصفة الخَلْق والإماتة صفات لله قديمة قبل أنْ يخلق شيئًا أو يميت شيئًا؛ لأنها صفات ثابتة لله قبل أنْ يباشر متعلقات هذه الصفات كما قلنا، ولله المثل الأعلى: الشاعر حين يقول قصيدة قالها لأنه شاعر ولا نقول: إنه شاعر لأنه قال هذه القصيدة، فلولا صفة الشعر فيه ما قال.
وكما أن الحياة مخلوقة، فالموت كذلك مخلوق، وقد يقول قائل: إذا أطلقتَ رصاصة على شخص أردَتْهُ قتيلًا فقد خلقتَ الموت.
نقول: الحمد لله أنك لم تدَّع الإحياء واكتفيتَ بالموت، لكن فَرْق بين الموت والقتل، القتل نَقْض للبِنْية يتبعه إزهاق للروح، أما الموت فتخرج الروح أولًا دون نَقْض للبنية.
لذلك يقول سبحانه: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرسل أَفإِنْ مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقلبتم على أَعْقَابِكُمْ} [آل عمران: 144].
والنمرود الذي حَاجَّ إبراهيم- عليه السلام- في ربه أمر بقتل واحد وتَرْك الآخر، وادَّعى أنه أحيا هذا، وأمات هذا، وكانت منه هذه الأعمال سفسطة لا معنى لها، ولو كان على حَقٍّ لأمرَ بإحياء هذا الذي قتله؛ لذلك قطع عليه إبراهيم- عليه السلام- هذا الطريق ونقله إلى مجال آخر لا يستطيع المراوغة فيه.
إذن: هَدْم البِنْية يتبعه خروج الروح؛ لأن للروح مواصفات خاصة، بحيث لا تحل إلا في بنية سليمة، وقد أوضحنا هذه المسألة- ولله المثل الأعلى- بلمبة الكهرباء، فقوة الكهرباء كامنة في الإسلاك لا نرى نورها إلا وضعنا اللمبة مكانها، ويكون لها مواصفات بحيث لا تضيء إلا إذا توفرتْ لها هذه الصفات، فإنْ كُسِرَت ينطفيء نورها.
ثم يقول تعالى: {وَلَهُ اختلاف الليل والنهار} [المؤمنون: 80] الليل يحل بغياب الشمس وحلول الظُّلْمة التي تمنع رؤية الأشياء، وقديمًا كانوا يظنون أن الرؤية تتم حين يقع شعاع من العين على المرئي، ثم جاء العالم المسلم الحسن بن الهيثم، فأثبت خطأ هذه النظرية، وقرر أن الرؤية تتم حين يقع شعاع من المرئيّ على العين فتراه، بدليل أنك لا ترى الشيء إنْ كان في الظلام.
وظُلْمة الليل تنبهنا إلى أهمية الضوء الذي لابد منه لنهتدي إلى حركة الحياة، والإنسان يواجه خطورة إنْ سار في الظلام؛ لأنه إمِّا أن يصطدم بأضعف منه فيحطمه، أو بأقوى منه فيؤلمه ويؤذيه.
إذن: لابد من وجود النور لتتم به حركة الحياة والسَّعْي في مناكب الأرض، وكذلك لابد من الظُّلْمة التي تمنع الإشعاع عن الجسم، فيستريح من عناء العمل، وقد أثبت العلم الحديث خطر الإشعاعات على صحة الإنسان.
لذلك يقول تعالى: {وَلَهُ اختلاف الليل والنهار} [المؤمنون: 80] فجعلهما يختلفان ويتعاقبان ليؤدي كل منهما وظيفته في الكون، يقول تعالى: {والليل إِذَا يغشى والنهار إِذَا تجلى} [الليل: 1- 2] وطالما أن لكل منهما مهمته، فإياك أن تقلب الليل إلى نهار، أو النهار إلى ليل؛ لأنك بذلك تخالف الطبيعة التي خلقك الله عليها، وانظر إلى هؤلاء الذين يسلكون هذا المسلك فيسهرون الليل حتى الفجر، وينامون النهار حتى المغرب، وكم أحدثوا من فساد في حركة الحياة، فالتلميذ ينام في الدرس، والعامل ينام ويُقصِّر في أداء عمله.
والنبي صلى الله عليه وسلم يُنبِّهنا إلى هذه المسألة في قوله: «... أطفئوا المصابيح إذا رقدتم» لأن الجسم لا يأخذ راحته، ولا يهدأ إلا في الظلمة، فيصبح الإنسان قويًا مستريحًا نشيطًا، واقرأ قول الله تعالى: {وَجَعَلْنَا اليل لِبَاسًا وَجَعَلْنَا النهار مَعَاشًا} [النبأ: 10- 11].
ومن دِقَّة الأداء القرآني أن يراعي هؤلاء الذين يعملون ليلًا، وتقتضي طبيعة أعمالهم السَّهَر، مثل رجال الشرطة وعمال المخابز وغيرهم، فيقول تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُم باليل والنهار} [الروم: 23] فالليل هو الأصل، والنهار لمثل هؤلاء الذين يخدمون المجتمع ليلًا؛ لذلك عليهم أن يجعلوا من النهار ليلًا صناعيًا، فيغلقوا النوافذ ويناموا في مكان هادئ؛ ليأخذ الجسم حظه من الراحة والهدوء.
إذن: الليل والنهار ليسا ضِدّيْن، إنما هما خَلْقان متكاملان لا متعاندان، وهما كالذكَر والأنثى، يُكمل كل منها الآخر، لا كما يدَّعي البعض أنهما ضدان متقابلان؛ لذلك بعد أن أقسم الحق سبحانه بالليل إذا يغشى، وبالنهار إذا تجلَّى، قال: {وَمَا خَلَقَ الذكر والأنثى إِنَّ سَعْيَكُمْ لشتى} [الليل: 3- 4] فالليل والنهار كالذكر والأنثى لكل منهما مهمة في حركة الحياة.